بدعة تكفير العاذر بالجهل.. مقالات

انتشر مقالة إكفار العاذر بالجهل إثر تصريح الشيخ الحازمي بذلك في رده على ما يعرف بالأشرطة التونسية، ودعوى أن تكفير المشركين يدخل في أصل الدين وحقيقة التوحيد الذي لا يعذر فيه بجهل ولا تأويل، وعليه فمن لم يكفر المشركين وعذرهم بالجهل فهو مشرك مثلهم لم يحقق أصل الدين ولم يأت بالتوحيد!

وقد تلقف هذا القول بعض طلاب العلم الصادقين الذين يحسنون الظن بالشيخ وعلمه، كما تلقفه قوم من الغلاة فتشربوه ونشروه، وجعلوه علامة التوحيد وحقيقة الإسلام، فوالوا على التكفير وعادوا عليه، فيالله كم ضلت بهذا القول أقوام، وزاغت أفهام، وتعثرت أقدام، وشوهت أقلام، وسالت بسببه دماء، وانتهكت أعراض، وفسد جهاد، ونبتت أحقاد ..

وقد سبق وأن كتبت في ذلك عدة مقالات بينت فيها أصل القول في تكفير الكافرين وحكم من لم يكفرهم أو توقف فيهم، وكان ذلك ردًا على أبي مريم المخلاف الخارجي المشهور ومن معه..

كما كتبت ردًا مختصرًا على كلام الشيخ الحازمي بينت فيه أن الشيخ لم يعتمد في قوله بتكفير العاذر بالجهل على أدلة قطعية صريحة وإنما استنتاجات وتراكيب يستنبط منها أن تكفير المشركين مجمع عليه لضرورة الإجماع على معنى التوحيد وكفر من يخالفه، فبينت أن ذلك ليس بدليل خاص على حكم من لم يكفر المشركين، وإن اعتبر دليلاً على كفر مرتكب الشرك على سبيل العموم، وبينت اضطراب الشيخ في هذه المسألة وأنه تارة يجعل التكفير من أصل الدين وتارة يجعله من الكفر بالطاغوت، وتارة يرده إلى تكذيب النصوص وهكذا ..

وما تدل عليه الأدلة الشرعية أن تكفير المشركين أو تكفير العاذر لهم بالجهل ليس من أصل الدين ولا من الكفر بالطاغوت، وإنما هو حكم شرعي كغيره من أحكام الإيمان الواجب التي يجب تصديقها والتسليم لها والإقرار بذلك من لوازم أصل الدين ومقتضياته، ومن يدعي أنه من أصل الدين ليس معه دليل صحيح صريح على ذلك من الكتاب والسنة أو قول أحد من سلف الأمة..فهو قول مبتدع لا أصل له ..

وقد اعتمد أصحاب هذه المقالة على بعض أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي ذكر فيها تكفير المشركين في معرض تعريفه لأصل الدين فقال :

"أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك، والموالاة فيه وتكفير من تركه.

الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغليظ في ذلك، والمعادة فيه وتكفير من فعله."

وهو تعريف صحيح لا إشكال فيه، لكنه كغيره من التعريفات يتضمن الأركان والواجبات واللوازم والمقتضيات، لأن كل ما له مبتدأ وكمال يُعَرَّف تارة باعتبار حده وأصله، وتارة باعتبار كماله وتمامه ،وينفى أيضاً باعتبار مبتدأه تارة وأخرى باعتبار كماله ..

فإذا عُرِّف باعتبار أصله كان التعريف جامعاً مانعاً مقتصرًا على المعنى المطابق، لا يدخل فيه غيره، وإذا عُرف باعتبار كماله أدخل فيه واجباته ولوازمه وشروطه المكملة ..

ولوازم الشيء هو ما لا ينفك عنها بحيث يدل انتفاؤها على انتفاء ذلك الشيء ..

ومعرفة المعنى اللازم يكون بتعيين المعنى المطابق للا إله إلا الله، فإذا عُين عرف بعد ذلك أن ما خلاه لوازم وحقوق هذه الكلمة . 

وقد يقول قائل: بأنه لا فرق بين أن يكون تكفير المشركين من أصل الدين أو أن يكون من لوازمه ،فإن انتفاء اللازم يدل انتفاء الملزوم ، وإقرارك بأن تكفير المشركين لازم لأصل الدين يكفي لأن نقول إن عدم تكفير المشركين كفر ،لأنه يلزم من عدمه عدم التوحيد وثبوت الكفر والشرك !!

وهذا الكلام فيه حق وباطل ! فإننا لا نخالف في إطلاق القول بأن من لم يُكّفر الكافر فهو كافر على سبيل العموم ، لكنا نخالف في مأخذ التكفير، وكون ذلك من أصل الدين الذي لا عذر فيه بجهل ولا تأويل !! 

فقولنا : إن تكفير المشركين من لوازم أصل الدين يعني أنه حكم شرعي موقوف على شروط وموانع وأسباب ،ويعذر فيه بالجهل والتأويل والخطأ ، وكونه لازم لأصل الدين لا يمنع تعلق هذه الأحكام به ، فقد يتخلف اللازم لعدم وجود سببه أو عدم توفر شرطه أو وجود مانعه ، ولا يلزم منه انتفاء أصل الدين ، ولا انفكاك التلازم، فإذا سلمنا بأن أصل الدين لا عذر فيه بالجهل والتأويل، فإن هذا الحكم لا ينسحب على لوازمه الخارجة عنه أو حقوقه التي يقتضيها .. 

فاللازم يتخلف تارة مع وجود مقتضاه فيدل انتفاؤه على انتفاء أصله وملزومه، ويتخلف تارة لتخلف سبب وجوده المقتضي له أو فقد شرطه المكمل أو لوجود مانع يمنع منه ،فلا يدل على انتفاؤه حينئذ على انتفاء ملزومه .

بخلاف أصل الدين ..فإنه لا يتخلف مطلقاً ولا يتوقف وجوده على وجود غيره وهو سابق على ما سواه شرط في صحته وقبوله ، فهو العبادة الدائمة التي لا تنقطع ..

وهو كقولنا إن الأعمال الظاهرة من لوازم إيمان القلب الباطن، وأن انتفائها بالكلية يلزم منه انتقاء إيمان القلب وثبوت الكفر الأكبر، فهنا (لازم وملزوم) اللازم هو الأعمال الظاهرة والملزوم هو أصل الإيمان الباطن، وانتفاء اللازم الذي هو الأعمال الظاهرة يلزم منه انتفاء الملزوم الذي هو أصل الدين، لذا كان مذهب أهل السنة والجماعة أن ترك الأعمال بالكلية كفر مخرج من الملة..

ولكن قد تنتفي الأعمال في الظاهرة في حالات لا يلزم فيها انتفاء أصل الإيمان، فتنتفي مثلاً لجهل المكلف بها جهلاً يعذر به، أو لعجزه عن القيام بها .. وهنا تنتفي الأعمال الظاهرة ولا ينتفي ملزومها الباطن..فالتلازم قائم بين الظاهر والباطن، والعذر ثابت .

وكذلك تكفير المشركين فإنه من لوازم أصل الدين وتصديق خبر الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأمره الذي حكم بكفر الكافرين وشرك المشركين ..

لكن قد ينتفي تكفير المشركين في حق المكلف ولا ينتفي أصل الدين، وذلك يكون لعدم وجود المشركين أصلاً ، أو لعدم علم المكلف بهم أو بحالهم أو لخطأ في تحقيق المناط أو تأويل مستساغ أو غير ذلك ، وفي هذه الحالات ينتفي التكفير ولا ينتفي أصل الدين لعدم اكتمال أسبابه وشروطه كما في المثال السابق . 

والحكم بالكفر من الشارع يأتي على وجهين :

الأول: يعين فيه الشخص بالكفر كالحكم في أبي لهب مثلاً.

كما في قوله تعالى :" تبت يدا أبي لهب وتب .." الآية ، وكحكم النبي صلى الله عليه وسلم في أبيه وأمه وعمه أبي طالب ،وكحكمه سبحانه على اليهود والنصارى وغيرهم...

فهذا كله حكم على الأعيان أو الطوائف ،فإذا حكم الشارع بالكفر على شخص بعينه ، لزم تكفيره عينا والبراءة منه ولا مجال للاجتهاد في تأويل هذه النصوص ،ويكون عدم التكفير في هذا لحالة راجعا إلى تكذيب النصوص وردها ...

الثاني: يناط الكفر بوصف أو فعل إذا قام بالمكلف اقتضى تكفيره، كقوله سبحانه : "إنه من يشرك بالله .." وقوله :"ومن لم يحكم بما أنزل الله ..." الآيات 

فإذا ما إذا أنيط حكم الكفر بوصف أو فعل، فهنايجتهد العالم في التحقق من ثبوت هذا الوصف في حق المعين، وخلوه من العوارض، ثم ينزيل حكم الكفر عليه، وهو ما يسمى بتحقيق بالمناط، وهنا لا يلزم من عدم التكفير زوال أصل الدين لأن السبب المقتضي للتكفير منتفي في حق من لم يكفر لإمكان ورود الخطأ أو الجهل أو التأويل في تنزيل الحكم أو فهم دلالته..

ومثال آخر وهو اعتقاد حرمة الخمر ووحوب الصلاة فإن هذا الاعتقاد لازم لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته في ما أمر،وتصديق النبي وطاعته من أصل الدين بلا شك، لكن اعتقاد حرمة الخمر ووجوب الصلاة موقوف على تشريع هذه الأحكام ابتداء وعلى علم المكلف بها بعد تشريعها وتحقق ذلك عنده، فلو أنكر المكلف حرمة الخمر أو جحد وجوب الصلاة كفر لكن إن لم يثبت عنده الحكم لجهل يعذر به أو تأويل يقبل منه، فهو في هاتين الحالتين معذور مع أن هذه الاعتقاد والإقرار به لازم لأصل الدين ..

أما المعنى المطابق لـ  لا إله إلا الله:  فهو ما دلت عليه ألفاظها بالتضمن والمطابقة، وهو الإقرار بأنه لا معبود بحق إلا الله، وفيه نفي العبادة عن غير الله والكفر بكل ما يعبد من دونه، وهو حقيقة الكفر بالطاغوت، وإثبات أحقيته سبحانه للعبادة هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة..

قال سبحانه : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" فهذه هي الكلمة التي اتفق عليها جميع الأنبياء، وهي كلمة التوحيد والإسلام العام، وهي ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين

وقال تعالى: " وإذ قال إبراهيم لقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون."والكلمة هي: لا إله إلا الله، فعبر عنها الخليل بمعناها، فنفى ما نفته هذه الكلمة من الشرك في العبادة، بالبراءة من كل ما يعبد من دون الله، واستثنى الذي فطره، وهو الله سبحانه الذي لا يصلح من العبادة شيء لغيره ،فهذا المعنى المطابق لهذه الكلمة وهو ما نص عليه أهل العلم ..

قال شيخ الإسلام : (ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين) ا.هـ 10/15 م .

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : ( ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة ) ا.هـ

فإذا ثبت ذلك بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم تين أن ما خلا المعنى المطابق مما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو من لوازم ذلك ومقتضاه، وقد نص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على ذلك كما سيأتي .. وبهذا يبطل القول أن تكفير المشركين من أصل الدين !!

فكون تكفير المشركين من لوازم أصل الدين يقتضي أنه موقوف على أسباب وشروط يلزم من عدمها عدمه، ولا يترتب تخلفه في حق المكلف كفر ولا شرك ، ومن هذه الأسباب عدم تحقق كفر المشركين لدى المكلف أو اشتباه حالهم عنده ،لذا وجب في حقه إقامة الحجة والبيان الذي يزول معه الشبهة قبل القول بكفره ..

وهذا نقل مهم للشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث صرح بأن تكفير المشركين من مقتضيات لا إله إلا الله، ثم علق تكفير من لم يكفر هم على البيان فقال :

( ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم; فهذا النوع أيضا لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك، وما تقتضيه من تكفير من فعله، بعد البيان إجماعًا ) ا.هـ الدرر السنية 2/ 207

وللشيخ رحمه الله ولأئمة الدعوة كلام كثير في هذا المعنى سبق نقله في غير موضع..

والله أعلم