مختصر في بيان أصل الدين وحقيقة قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في اشتراط تكفير المشركين وأنه من لوازم القول

مختصر في بيان أصل الدين، وحقيقة قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في اشتراط تكفير المشركين وأنه من لوازم القول.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد .. فقد طلب مني من لا أستجيز رد طلبه من خيرة الإخوان مختصرًا في مسائل الأسماء والأحكام تكون له عصمة من الشطط وبراءة من مسالك اللغط والغلط، فأجبته مستعينا بالله، سائلاً منه التوفيق والسداد:
 إن هذا المسمى مسمى فخم في نفسه حارت فيه الفهوم وزاغت فيه العقول ومع ذلك أقول إن مسائله بسيطة سهلة ما عقَّدها إلا أهل الجهل والغلو والتفريط إما بالزيادة أو النقصان أو سوء الفهم والزوغان .. 

فالإسلام هو دين الله منذ أن خلق الله الأرض والسماوات والإنسان . "إن الدين عند الله الإسلام"، "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" .. وهو دين الرسل جميعًا وإن اختلفت شرائعهم، وهو الإسلام العام، وهو التوحيد ،وإفراده سبحانه بالعبادة، "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"، ويقابله الإسلام الخاص الذي هو إسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتضمن الإسلام العام والشريعة الإسلامية ... 

وفي مسائل الإحكام والأسماء يجدر التنبيه على أن الإسلام يطلق باعتبارين : الأول: الإسلام على الحقيقة ،ويكون بالاستسلام لله سبحانه بالعبودية والبراءة من الشرك .
 الثاني: الإسلام حكمًا ويكون بالنطق بالشهادتين أو الولادة لأبوين مسلمين أو أحدها، أو بالإتيان بأي دلالة على الإسلام مما تختص به الشريعة كالصلاة أو الحج، وهذا عند فقد الخاصيتين السابقتين ..
 وكل ذلك قد ورد بشأنه نصوص صريحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أني رسول الله فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله"، وكحديث أسامة والمقداد وغيرها .. 

وهذا كله في الإسلام الحكمي الظاهر الذي هو مدار مسائل الأسماء والأحكام . فالمسلم هو من أظهر الإسلام أو انتسب إليه ولم يرتكب ما ينقضه من المكفرات المجمع عليها. والمشرك الكافر هو من لم يأت بالإسلام أو أتى به ثم نقضه بناقض معتبر مما دلت عليه الشريعة، وخلا من العذر ..

 والكفر بالطاغوت يقابله الإيمان بالله، فكل من آمن بالله فقد كفر بالطاغوت ومعنى الكفر بالطاغوت يحصل فيه كثير من الغبش، إذ يشترط البعض معاني زائدة عن الأصل هي في حقيقتها لوازم وكمالات واجبة يدخلونها في معنى الكفر بالطاغوت ويجعلون الإتيان بها من أصل الدين، وهذا خطأ!

 ومن ذلك تكفير الطاغوت وتكفير عابديه ... والطاغوت في حقيقته كل ما يعبد من دون الله سواء كانت عبادته بتقديم النسك له أو بطاعته ومتابعته على الباطل، فالطاعة في التحليل والتحريم وسائر أنواع التشريع من العبادة، لما جاء في حديث عدي رضي الله عنه وقول النبي له لما أنكر عبادة الأحبار، فقال له " أو لم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ قال بلى قال فتلك عبادتكم إياهم"، فأثبت أن عبادتهم كانت بمتابعتهم فيما شرعوه من الحلال والحرام .. 

والكفر بما يعبد من دون الله هو مضمون شهادة لا إله إلا الله فـ"لا إله" نفي العبادة عن غير الل، و"إلا الله" إثباتها له وحده، وهذه الصيغة من أحكم صيغ الإفراد والتخصيص، حيث النفي والإثبات، وعلى منوالها قول إبراهيم عليه السلام: "إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" ففيها النفي والإثبات المتضمن في الشهادتين، وقوله سبحانه: في صفة الكفر بالطاغوت : "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله" الآية ..ففيها نفس المعنى وقول إبراهيم عليه السلام : "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي" .. ففيها نفس المعنى أيضًا من التخلية والتحلية، والنفي والإثبات، وكل ذلك يدل على أن أصل الدين قائم على نفي العبادة عن غير الله وإثباتها له سبحانه .. 
شبهة في تعريف الطاغوت:
وأما ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تعريف الكفر بالطاغوت حيث قال : "- وأما صفة الكفر بالطاغوت فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم" .. الدرر السنية 1\161 فهو من باب ذكر الشيء ولوازمه ومكملاته وعدم الاقتصار على أصله، كما يعرف الإيمان تارة باعتبار أصله وتارة باعتبار كماله الواجب، وينفى تارة باعتبار أصله وتارة باعتبار كماله الواجب، وهذا ما دلت عليه النصوص فقد قال سبحانه عن صفة الكفر بالطاغوت: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي" ، وقال على لسان إبراهيم :" وأعتزلكم وما تدعون من دون الله .." وقال سبحانه عن لسان إبراهيم أيضًا: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون*إلا الذي فطرني "، قال مجاهد وقتادة وغيرهما هي كلمة التوحيد وهي شهادة لا إله إلا الله ،فهذا لمعنى هو المعنى المطابقي للا إله إلا الله، وما زاد عليه هو من مقتضياته .. 

-    قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : "ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة. ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله: "لا إله إلا الله" كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: "لا إله إلا الله" وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقال الخليل -عليه السلام- لأبيه وقومه: "إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه " وهي "لا إله إلا الله" وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه, وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما تقدم تقريره " فتح المجيد صـ 44
-     وقال في كتاب الإيمان : "فدلت هذه الكلمة العظيمة مطابقة على إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، ونفي كل معبود سواه، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"،أي: لا إله إلا الله، فأرجع ضمير هذه الكلمة إلى ما سبق منه مدلولها، وهو قوله: "إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي"، وهذا هو الذي خلق الله الخلق لأجله، وافترضه على عباده، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانه، وتقريره، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ"، وقال تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ إِلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ" الآية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ"".
-    
-     وقال في الرد على الكشميري : "وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنًا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة،".
-     وأسوق هذه النقولات لأبين أن هؤلاء الأئمة لا يطلقون الكلام جزافًا بل لديهم تفصيل دقيق لهذه المصطلحات لا يقف عليه من يريد أن يشوش وينتقي ما يناسبه من الأقوال.

-     قال :" فعبر عن معنى لا إله بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}8، وعبر عن معنى إلا الله بقوله: "إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي"؛ فتبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله –تعالى- كما تقدم. وهذا واضح بيّن لمن جعل الله له بصيرة ولم تتغير فطرته،".

-     ولمن لم يقف على دلالات الألفاظ فإن اللفظ يدل على معناه بثلاث دلالات :

-    1- "دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على تمام ما وُضع له من معنى؛ كدلالة لفظ البيت على معنى البيت (السقف والجدران).

-    2- ودلالة التضمن كون الجزء في ضمن المعنى الموضوع له؛ كدلالة لفظ البيت على (السقف) لأن لفظ البيت عبارة عن السقف والجدران.

-     3- ودلالة الالتزام كون الخارج لازماً للمعنى الموضوع له؛ كدلالة لفظ السقف (على الحائط) لأن السقف غير موضوع للحائط حتى يكون مطابقاً له، ولا يتضمن إذ ليس الحائط جزءًا من السقف كما كان السقف جزءًا من نفس البيت وكما كان الحائط جزءًا من نفسه أيضًا؛ ولكنه كالرفيق الملازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه." 
-    اهـ. روضة الناظر وشرحها، ص 50، 51.

-     وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : "وهذا التوحيد له أركان وفروع، ومقتضيات وفرائض، ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الكمال والتمام إلا بالقيام بها عِلْمًا وعملا. " المورد العذب الزلال.

-     وقال الشيخ سليمان ابن سحمان: "قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن على ما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بقوله: أصل الإسلام وقاعدته أمران: "الأول": الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه. "الثاني": الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتلفظ في ذلك والمعادة فيه وتكفير من فعله، فذكر كلاما طويلا ثم قال رحمه الله تعالى: وقد وسم أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات، فلا بد من تكفيرهم، وأيضا هذا هو مقتضى لا إله إلا الله كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته كما في الحديث الصحيح "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله". فقوله: وكفر بما يعبد من دون الله – تأكيد للنفي فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله، فهذه الأمور هي تمام التوحيد، " انتهي تنبيه ذوي الألباب.


-     وقال في كشف الشبهتين :" فإن كان الكلام مع جهمي ينكر علوا الله على خلقه، ويعطل أسمائه وصفاته، كان هذا الفعل خيرًا محضًا لا شر فيه وتسميته شرًا يوقع في الفتنة التي توبق صاحبها، وتحلق بأهل الوعيد، نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكذلك لو كان هذا مع إباضي، أو مع عباد القبور، والأمر أشد من ذلك وأعظم. فإن كان مع من يواليهم، ويجالسهم فقوله لأحدهم: يا كافر أو يا جهمي خطأ، فإنه لا يقال هذا إلا لكافر أو جهمي قد قامت عليه الحجة وبعد ذلك كابر وعاند، ومن والاهم وجادل عنهم بعدما تبين له الحق، واتضح له كلام العلماء في تكفيرهم، وتحققوا أنه قد بلغتهم الحجة، وقامت عليهم بإنكار أهل الإسلام عليهم، وإن لم يفهموا الحجة، ثم كابر وعاند فإن كان عن تأويل فلا أدري ما حاله، وأمره شديد، ووعيده أشد وعيد إن كان غير ذلك، ".
-     فهذه الآيات دليل واضح على معنى التوحيد وصفة الكفر بالطاغوت وأنها تكون باجتناب عبادته واعتزال العابد والمعبود، وموضع الأسوة يتضمن تمام الإيمان وكماله لذا ذكر فيه إبداء العداوة والبغضاء ومعلوم أن هذا ليس من أصله بل من تمام التوحيد وكماله، فثمة صور ليس فيه إبداء العداوة والبغضاء بل فيها المصاحبة بالمعروف والإحسان كحال الوالدين المشركين وصور لا يظهر فيها هذا كحال المعاهد والذمي والمستأمن والكفار قبل دعوتهم، وقد قال سبحانه عن فرعون :"وقولا له قولا لينا " ، وقال لرسوله : "ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك .. الآية فموضع الأسوة يتضمن الكمال والتمام أما موضع تقرير الأصل ففيما ذكر من آيات وأحاديث من اعتزال عبادة غير الله والبراءة منها ومن أهلها، والبراءة العابد والمعبود أعم من تكفيرهما وتحصل بالمفاصلة والاعتزال واعتقاد بطلان عبادته وبطلان ما هم عليه وبغضه وبغض أهله، وهذا ما عليه عوام المسلمين فإن التكفير أمر دقيق لا يفطن إليه إلا العلماء لم يخاطب به عوام الناس بل حذروا منه وتوعدوا عليه إن كان بغير علم أو بغير حق، وألفاظ القرآن والسنة ليس فيها التكفير وإنما فيه البراءة والاعتزال وهي مقدمة على كل كلام.. والله أعلم